سورة الروم - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ(8)}
المعنى: أن يكون ذلك منهم: لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، ويغفلون عن الآخرة، ولم يتفكروا في أنفسهم، فيأتي لهم بالدليل مرة في أنفسهم، ومرة في السماوات والأرض.
الدليل في الأنفس يقول لك: فكِّر في نفسك. أي: اجعلها موضوع تفكيرك، وتأمل ما فيها من أسرار دالة على قدرة الخالق عز وجل، فإلى الآن ومع ما توصَّل إليه العلم ما زال في الإنسان أسرار لم تُكشف بعد.
تأمل في مقومات حياتك: الأكل والشرب والتنفس، وكيف أنك تصبر على الطعام حتى شهر، تتغذى من المخزون في جسمك، وتصبر على الماء من ثلاثة إلى عشرة أيام على مقدار ما في جسمك من مائية، لكنك لا تصبر على الهواء إلا بمقدار شهيق وزفير.
لذلك من حكمته تعالى حين أمَّن للبشر هذه المقوِّمات أنْ جعل مدة صبرك على الطعام أطول، لأن طعامك قد يحتكره غيرك، فتحتاج إلى طلبه والسَّعْي إليه، أما الماء فمدة الصبر عليه أقل، لذلك جعل الحق سبحانه احتكار الماء قليلاً.
أما الهواء الذي لا تصبر عليه إلا بمقدار شهيق وزفير، فمن حكمة الله تعالى ألاَّ يُملَّك لأحد أبداً، وإلا لو احتكر الناسُ الهواء لما استقامت الحياة، فلو منعك صاحب الهواء هواءه لمتَّ قبل أنْ يرضى عنك.
تأمل في نفسك حين تأكل الطعام، وفيك مدخلان متجاوران: القصبة الهوائية، وهي مجرى الهواء للرئتين، والبلعوم وهو مجرى الطعام للمعدة، تأمل ما يحدث لك إنْ دخلتْ حبة أرز واحدة في القصبة الهوائية، فبلا شعور تشرَق بها، وتظل تقاومها حتى تخرج، وتأمل حركة لسان المزمار حين يسد القصبة الهوائية أثناء البلع، هذه الحركة التلقائية التي لا دخلَ لك فيها، ولا قدرة لك عليها بذاتك.
تأمل وضع المعدة، وكيف أن الله جعل لها فتحة يُسمونها فتحة الفؤاد، هي التي تُغلق المعدة بإحكام بعد الطعام، حتى لا تؤذيك رائحته بأنْ تتسرب عصارة المعدة إلى الفم فتؤلمك، فمن أصابه خلل في إغلاق هذه الفتحة تجد رائحة فمه كريهة يسمونه(أبخر).
كذلك تأمل في عملية إخراج الطعام وكيف تكون طبيعياً مستريحاً؟ وفجأت تحتاج إلى الحمام وإلى قضاء الحاجة، ماذا حدث؟ والأمر كذلك في شربة الماء، ذلك لأن لجسمك طاقة تحمُّل في الأمعاء وفي المثانة، ففي لحظة يريد الحمل عن الطاقة، فتشعر بالحاجة إلى الإخراج.
وهذا مجال لا حصرَ له مهما تقدمتْ العلوم، ومهما بحثنا في أنفسنا، ويكفي أن نقرأ: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] فدعانا ربنا إلى البحث في أنفسنا قبل البحث فيما حولنا من آيات السماء والأرض؛ لأن أنظارنا قد تقصر عن رؤية ما في السماوات والأرض من آيات، أما نفسي فهي أقرب دليل منك وأقوى دليل عليك.
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ...} [الروم: 8] أي: فكِّروا في أنفسكم بعيداً عن ضجيج الناس وجدالهم ومِرائهم، فحين تجادل الناس تجد لجاجة وحرصاً على الظهور، ولو بالباطل، إنما حينما تكون مع نفسك تسألها وتتأمل فيها، فلا مُهيج ولا مُعاند، لا تخجل أنْ ينتصر عليك خَصْمك، ولا تطمع في مكانة أو منزلة؛ لذلك تصل بالنظر في نفسك إلى الحقيقة.
لذلك يخاطب القرآن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ...} [سبأ: 46] يعني: يا مَنْ تفكِّرون في صدق هذا الرسول، وتتهمونه بالكذب والافتراء والسحر.. الخ أريد منكم شيئاً واحداً {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى...} [سبأ: 46] أي: مثنى مثنى، أو منفردين، كلٌّ على حدة {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46].
إذن: الطريق إلى الحقيقة لا يكون بالمجادلة الجماهيرية، إنما بتأمل الإنسان مع نفسه، أو مع مثله، فمع الجماعة تتحرك في النفس الرغبة في العْلُو والانتصار؛ لذلك حين تناقش العاقل يقول لك(حسيبك تراجع نفسك) يعني: تفكَّر وحدك بحيث لا تُحرج من أحد، فتكون أقرب للموضوعية وللوصول إلى الحق.
وبعد أنْ أمرنا ربنا بالتفكّر في أنفسنا يلفتنا إلى التأمل فيما حولنا من السماوات والأرض {مَّا خَلَقَ الله السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى...} [الروم: 8].
وهناك آية أخرى تقدم التفكُّر في السماء والأرض على التفكّر في النفس، هي قوله تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس...} [غافر: 57].
لماذا؟ لأن الإنسان قد يموت قبل أنْ يُولد، ويموت بعد عدة سنوات، أو حتى بعد مئات السنين، أما السماوات والأرض بما فيهما من أرض وسماء وشمس وقمر.. إلخ فهي كما هي منذ خلقها الله لم تتغير، وهي تؤدي مهمتها دون تخلُّف، ودون صيانة، ودون أعطال، فهي بحقٍّ أعظم من خَلْق الناس وأكبر.
إذن: الآية والأدلة في أنفسكم وفي السماوات والأرض، لكن أيهما الآية الأقوى؟ قالوا: ما دامت السماوات والأرض أكبر من خَلْق الناس فهي الأقوى، فإن لم تقنع بها فانظر في نفسك؛ لذلك يقول العلماء بالمفيد والمستفيد، المفيد هو الله- عز وجل- فحينما يضرب لي مثلاً يضرب لي بالأقوى، فإنْ لم أُطِقْه يأتي لي بالأقل، والمستفيد هو الذي ينتقل من الأقل للأكبر.
ومعنى {وَمَا بَيْنَهُمَآ...} [الروم: 8] أي: من الكواكب والأفلاك والنجوم التي نشاهدها في جَوِّ السماء، وكانوا في الماضي لما أرادوا أنْ يُقرِّبوا أمور الدين لعقول الناس يقولون: الكواكب السبعة هي السماوات السبع، ووقع فيها علماء كبار، لكن الحقيقة أن هذه الكواكب السبعة كلها دون السماء الدنيا، واقرأ قول الله تعالى: {وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ...} [فصلت: 12].
فأين السماء من الكواكب التي نشاهدها؟! أتعلم كم ثانية ضوئية بينك وبين الشمس، أو بينك وبين القمر؟ بيننا وبين الشمس ثماني دقائق ضوئية، وبيننا وبين المرأة المسلسلة مائة سنة ضوئية، وبيننا وبين المجرة مليون سنة ضوئية.
ولك أن تضرب مليون سنة في 365يوماً، وتضرب الناتج في 24 ساعة، وتضرب الناتج في ستين دقيقة، ثم في ستين ثانية، ثم تضرب الناتج من ذلك في 300 ألف كيلو، ثم تأمل الرقم الذي وصلتَ إليه.
وما أسكتَ القائلين بأن الكواكب السبعة هي السماوات السبع إلا أن العلماء اكتشفوا بعدها كوكباً جديداً حول الشمس، وبعد سنوات اكتشفوا آخر. كذلك حين صعد رواد الفضاء إلى سطح القمر أسرع هؤلاء(الفاحشة) يقولون: لقد سبق القرآن، وأخبر بهذا في قوله تعالى: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33].
وقالوا: إن السلطان هو سلطان العلم الذي مكّننا من اعتلاء سطح القمر، وعجيب أن يقول هذا الكلام علماء كبار، فأين القمر من السماء؟ القمر ما هو إلا ضاحية من ضواحي الأرض كمصر الجديدة بالنسبة للقاهرة، ثم إنْ كان السلطان هنا هو سلطان العلم، فماذا تقولون في قوله تعالى بعدها: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 35].
لقد حدث هذا التخبط نتيجة الخلط بين علوم الدين والشريعة، وبين علوم الكونيات، وهذه آفة علماء الدين أنْ يتدخلوا فيما لا علمَ لهم به، فالكونيات يُؤخَذ منها الدليل على عظمة الصانع وقدرته سبحانه، إنما لا يُؤخذ منها حكم شرعي.
ورأينا من هؤلاء مَنْ ينكر كروية الأرض، وأنها تدور حول الشمس، ومنهم مَنْ ظن أن علماء الكونيات- مع أنهم كفرة- يعلمون الغيب لأنهم توصَّلوا بحسابات دقيقة لحركة الأرض إلى موعد الخسوف والكسوف، وجاء الواقع وَفْق ما أخبروا به بالضبط.
وهذه المسألة- كما سبق أنْ قُلْنا- ليست من الغيب المطلق، بل من الغيب الذي أعطانا الله المقدمات التي توصل إليه، وقد توصّل العلماء إليه بالبحث ودراسة معطيات الكون، ونفهم هذا في ضوء قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق..} [فصلت: 53].
وهذه أيضاً من الآيات التي تُقدّم فيها أدلة السماوات والأرض على أدلة النفس. إذن: فالكونيات تُبنَى على علوم ودراسات، لا دخلَ للدين بها، الدين جاء ليقول لك: افعل كذا، ولا تفعل كذا، ثم ترك الكونيات إلى أنْ تتسع العقول لفهمها.
وقوله سبحانه: {إِلاَّ بالحق..} [الروم: 8] لأن السماوات والأرض وما بينهما من الكواكب والأفلاك تسير على نظام ثابت لا يتخلف، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبداً، وتأمل حركة الكواكب والأفلاك تجد أنها تسير وَفْق نظام دقيق منضبط تماماً.
فالشمس لم تتخلف يوماً فتقول مثلاً: لن أطلع اليوم على هؤلاء الناس؛ لأنهم ظالمون، لأن لها قانوناً تسير به، وهي مخلوقة بحق ثابت لا يتغير، وما دامتْ هذه الكونيات خلقت بحق وبشيء ثابت فلك أن ترتب عليها حساباتك وتضبط بها وقتك، وأنت لا تضبط وقتك على ساعة إلا إذا كانت هي في ذاتها منضبطة.
لذلك يقول سبحانه: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] أي: مخلوقة بحساب؛ ولأنه سبحانه خلقها بحساب جعلها آلة للحساب، فقال: {والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 39-40].
ويقول سبحانه: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5] وهل تعلمون بالقمر عدد السنين والحساب، إلا إذا كان هو مخلوقاً بحساب؟
ومع ذلك، ومع أن الكون خلقه الله بالحق الثابت إياك أن تظن أن ثباته دائم باقٍ؛ لأن الله تعالى خلقه على هيئة الثبات لأجل {إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى...} [الروم: 8] فبعد أن ينقضي هذا الأجل الذي أجَّلَه الله تُكوّر الشمس وتنكدر النجوم، وتُبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات، فالأمر ليس مجرد أنْ يتغير الشيء الثابت، إنما يزول وينتهي.
ثم يقول سبحانه: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم: 8] كنا نجادل الشيوعيين نقول لهم: لقد بالغتم في تعذيب مخالفيكم من الإقطاعيين والرأسماليين، وتعديتم في عقابكم، قالوا: لأنهم ظلموا وأفسدوا في المجتمع، فقلنا لهم: فما بال الذين ظلموا قبل هؤلاء وماتوا ولم ينالوا ما يستحقون من العقاب؟ أليس من العدل أن تقولوا بدار أخرى يُعاقبون فيها على ما اقترفوه؟
ألا يلفتكم هذا إلى ضرورة القيامة، ووجوب الإيمان بها؟ فمن أفلت من أيديكم في الدنيا عاقبه الله تعالى في الآخرة، ثم أنتم تروْنَ مبدأ الثواب والعقاب في كل شيء، فالذي أطلق لنفسه العَنان في الدنيا، وسار فيها على هواه، وعَاثَ في الأرض فساداً، ولم تنلْه يد العدالة فهو الفائز إنْ لم تكُنْ له دار أخرى يُحاسَب فيها.
إذن: فالإيمان بالآخرة وبلقاء الله ضرورة يقتضيها المنطق السليم، ومع ذلك يكفر بها كثير من الناس {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم: 8].
فالمؤمن يجب أن يكون على ثقة بهذا اللقاء؛ لأن قوانين الأرض إنما تَحْمي من ظاهر المنكر، وأما باطن المنكر فلا يعلمه إلا الله، فلابد من فترة يُعاقب فيها أصحاب باطن المنكر.


{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(9)}
المعنى: أيكفرون بلقاء ربهم ولم يسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم- خُذْ فقط أمور الدنيا، فهي كافية لمن اعتبر بها- فهؤلاء لم يسيروا في الدنيا، ولم ينظروا فيها بعين الاعتبار بمَنْ سبقهم من الأمم المكذِّبة، ولم يتعظوا بما وقع في الدنيا فضلاً عما سيقع في الآخرة.
فإنْ كُنَّا صدَّقنا ما وقع للمكذِّبين في الدنيا وشاهدناه بأعيننا، فينبغي أن نُصدِّق ما أخبر به الله عن الآخرة؛ لأنك إنْ أردتَ أنْ تعلم ما تجهل فخُذْ له وسيلة مما تعلم. إذن: سيروا في الأرض، وانظروا بعين الاعتبار لمصير الذين كذَّبوا، وماذا فعل الله بهم؟
والسَّيْر: قَطْع المسافات من مكان إلى مكان {أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض...} [الروم: 9] لكن أنسير في الأرض أم على الأرض؟ هذا من دقة الأداء القرآني، ومظهر من مظاهر إعجازه، فالظاهر أننا نسير على الأرض، لكن التحقيق أننا نسير في الأرض؛ لأن الذي خلقنا وخلق الأرض قال: {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ: 18].
ذلك لأن الأرض ليست هي مجرد اليابسة التي تحمل الماء، والتي نعيش عليها، إنما الأرض تشمل كل ما يحيط بها من الغلاف الجوي؛ لأنها بدونه لا تصلح للعيش عليها، إذن: فغلاف الأرض من الأرض، فحين نسير لا نسير على الأرض إنما في الأرض.
والسير في الأرض نظر له الدين من ناحيتين: سير يُعَدُّ سياحة للاعتبار، وسيْر يُعَدُّ سياحة للاستثمار، فالسير للاعتبار أن تتأمل الآيات في الأرض التي تمر بها، فالجزيرة العربية مثلاً صحراء وجبال يندر فيها الزرع، فإنْ ذهبتَ إلى أسبانيا مثلاً تجدها بلاداً خضراء لا تكاد ترى سطح الأرض من كثرة النباتات بها.
وفي كل منها خيرات؛ لأن الخالق سبحانه وزَّع أسباب الفضل على الكون كله، وترى أن هذه الأرض الجرداء القاحلة والتي كانت يشقُّ على الناس العيش بها لما صبر عليها أهلها أعطاهم الله خيرها من باطن الأرض، فأصبحت تمد أعظم الدول وأرقاها بالوقود الذي لا يُسْتغنى عنه يوماً واحداً في هذه البلاد، وحينما قطعناه عنهم في عام 1973ضجُّوا وكاد البرد يقتلهم.
حين تسير في الأرض وتنظر بعين الاعتبار تجد أنها مثل(البطيخة)، لو أخذتَ منها قطاعاً طولياً فإنه يتساوى مع باقي القطاعات، كذلك الأرض وزَّع الله بها الخيرات على اختلاف ألوانها، فمجموع الخير في كل قطاع من الأرض يساوي مجموع الخيرات في القطاعات الأخرى.
الجبال التي هجرناها في الماضي وقُلْنا إنها جَدْب وقفر لا حياةَ فيها، هي الآن مخازن للثروات وللخيرات قد اتجهت إليها الأنظار لإعمارها والاستفادة منها، وانظر مثلاً إلى ما يحدث من نهضة عمرانية في سيناء.
إذن: فالخالق سبحانه وزَّع الخيرات على الأرض، كما وزَّع المواهب على الخَلْق ليظل الجميع مرتبطاً بعضه ببعض برباط الحاجة لا يستغني الناس بعضهم عن بعض، ولا البلاد بعضها عن بعض، وهنا لفتة إيمانية: أن الخلق كلهم عباد الله وصنعته، والبلاد كلها أرض الله وملكه، وليس لله ولد، وليس بينه وبين أحد من عباده قرابة، فالجميع عنده سواء، لذلك سبق أن قلنا: لا ينبغي لك أنْ تحقد على صاحب الخير أو تحسده؛ لأن خيره سيعود عليك حتماً.
ومعنى {الذين مِن قَبْلِهِمْ...} [الروم: 9] أي: الأمم التي كذَّبَتْ الرسل، وفي آية أخرى يوضح سبحانه عاقبة هؤلاء المكذبين: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
ويخاطب سبحانه كفار قريش: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137-138].
أي: في أسفاركم ورحلات تجارتكم تروْنَ مدائن صالح وغيرها من القرى التي أصابها العذاب مازالت شاخصة لكل ذي عينين.
ويقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} [الفجر: 6-8] وكانوا في رمال الأحقاف {وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 9-13].
لقد كان لكل هؤلاء حضارات ما زالت حتى الآن تبهر أرقى حضارات اليوم، فيأتون إليها ليتأملوا ما فيها من أسرار وعجائب، ومع ذلك لم تستطع هذه الحضارات أنْ تحمي نفسها من الدمار والزوال، وما استطاعت أنْ تمنع نفسها من عذاب الله حين حَلَّ بها، إذن: لكم في هؤلاء عِبْرة.
وكأن الحق سبحانه في قوله: {أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ...} [الروم: 9] يقول لكفار قريش: أنتم يا مشركي قريش أقلّ الأمم، لا قوةَ لكم، ولا مال ولا حضارة ولا عمارة، فمن اليسير علينا أن نأخذكم كما أخذنا مَنْ هم أقوى منكم، إنما سبق أنْ أخذتم العهد في قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
لذلك يقول بعدها: {كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا...} [الروم: 9] فالأمم المكذِّبة التي أخذها الله وجعلها لكم عبرة كانت أقوى منكم، وأخصب أرضاً، لذلك أثاروا الأرض. أي: حرثوها للزراعة وللإعمار، وأنتم بواد ذي ذرع، والحرث يُطلَق على الزرع كما في قوله سبحانه: {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل...} [البقرة: 205].
ذلك لأن الأرض لا تنبت النبات الجيد إلا إذا أثارها الفلاح، وقلَّبها ليتخلل الهواء تربتها، فتجود عليه وتؤدي مهمتها كما ينبغي، أما إنْ تركتها هامدة متماسكة التربة والذرات، فإنها تمسك النبات ولا تعطي فرصة للجذور البسيطة لأنْ تمتد في التربة، خاصة في بداية الإنبات.
وفي موضع آخر يقول سبحانه وتعالى عن النبات: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 63-64].
وفي قصة البقرة مع بني إسرائيل لما تلكئوا في ذبحها وطلبوا أوصافها، قال لهم الحق سبحانه: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِي الحرث...} [البقرة: 71].
يعني: بقرة مُرفهة غير سهلة الانقياد، فلا تُستخدم، لا في حَرْث الأرض وإثارتها، ولا في سَقْيها بعد أنْ تُحرَث؛ لذلك تجد أن الفلاح الواعي لابد أن يثير الأرض ويُقلِّب تربتها قبل الزراعة، ويتركها فترة ليتخللها الهواء والشمس، ففي هذا إحياء للتربة وتجديد لنشاطها، كما يقولون أيضاً: قبل أن تزرع ما تحتاج إليه انزع ما لا تحتاج إليه.
إذن: فهؤلاء القوم كانت لهم زروع وثمار تمتعوا بها وجمعوا خيراتها.
ومعنى {عَمَرُوهَا...} [الروم: 9] أي: بما يسَّر الله لهم من الطاقات والإمكانات، وأعملوا فيها الموهبة التي جعلها الله فيهم، فاستخرجوا من الأرض خيراتها، كما قال سبحانه: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا...} [هود: 61].
وإعمار الأرض يكون بكل مظهر من مظاهر الرقي والحياة، إما بالزرع أو الغًرْس، وإما بالبناء، وإما بشقِّ الأنهار والمصارف وإقامة الطرق وغير ذلك مما ينفع الناس، ونُفرِّق هنا بين الزرع والغَرْس: فالزرع ما تزرعه ثم تحصده مرة واحدة كالقمح مثلاً، أما الغرس فما تغرسُه، ويظل فترة طويلة يُدر عليك، فمحصوله مُتجدِّد كحدائق الفاكهة، والزرع يكون ببذْر الحبِّ، أما الغرس فنبتة سبق إعدادها تُغرس.
ثم يقول سبحانه: {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات...} [الروم: 9] فبعد أنْ أعطاهم مقوِّمات الحياة وإمكانات المادة وطاقاتها، وبعد أنْ جَنَوْا ثمارها لم يتركهم للمادة إنما أعطاهم إمكانات القيم والدين، فأرسل لهم الرسل {بالبينات...} [الروم: 9] أي: الآيات الواضحات الدالة على صِدْق الرسول في البلاغ عن ربه وهذه التي نسميها المعجزات.
وسبق أنْ ذكرنا أن كلمة الآيات تُطلَق على معانٍ ثلاثة: آيات كونية دالة على قدرة الصانع سبحانه كالشمس والقمر، وآيات تُؤيِّد الرسل وتُثبت صِدْقهم في البلاغ عن الله وهي المعجزات، وآيات القرآن التي تحمل الأحكام والمنهج، وكلها أمور واضحة بينة.
وقوله تعالى: {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9] نعم، ما ظلمهم الله؛ لأنه سبحانه أمدهم بمقوِّمات الحياة وإمكانات المادة، ثم أمدهم بمقومات الروح والقيم، فإنْ حادوا بعد ذلك عن منهجه سبحانه فما ظلموا إلا أنفسهم.
ثم نقول: كيف يتأتَّى الظلم من الله تعالى؟ الظلم يقع نعم من الإنسان لأخيه الإنسان؛ لأنه يحقد عليه، ويريد أنْ يتمتع بما في يده، فالظالم يأخذ حقَّ المظلوم الذي لا قدرةَ له على حماية حقه. فكيف إذن نتصور الظلم من الله- عز وجل- وهو سبحانه مالك كل شيء، وغني عن كل شيء؟ إذن: ما ظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم حينما حادوا عن طريق الله ومنهجه.


{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ(10)}
الإساءة ضدها الإحسان، وسبق أن قلنا: إن الإحسان: أن تترك الصالح على صلاحه، أو أن تزيده صلاحاً، ومثَّلْنا لذلك ببئر الماء الذي يشرب منه الناس، فواحد يأتي إليه فيردمه أو يُلوث ماءه، وآخر يبني حوله سياجاً يحميه أو يجعل له آلة تُخرج الماء وتُريح الناس، فهذا أحسن وذاك أساء، فإذا لم تكُنْ محسناً فلا أقلَّ من أنْ تكفَّ إساءتك، وتدع الحال على ما هو عليه.
والحق سبحانه وتعالى خلق الكون على هيئة الصلاح، ولو تركناه كما خلقه ربه لَظلَّ على صلاحه، إِذاً لا يأتي الفساد إلا من تدخُّل الإنسان؛ لذلك يقول سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11-12].
وينبغي على الإنسان أنْ يأخذ من ظواهر الكون ما يفيده، أذكر أننا حينما سافرنا إلى مكة سنة 1950 كنا ننتظر السَّقاء الذي يأتي لنا بقربة الماء، ويأخذ أجرة حملها، وكنا نضعها في(البزان) وهو مثل(الزير) عندنا، فإذا أراد أحدنا أن يتوضأ يأخذ من الماء كوزاً واحداً ويقول: نويت نية الاغتراف، ولا يزيد في وضوئه عن هذا الكوز؛ لأننا نشتري الماء، أما الآن فالواحد منا لا تكفيه(صفيحة) لكي يتوضأ من حنفية الماء. وفي ترشيد استعمال الماء ترشيد أيضاً للصرف الصحي وللمياه الجوفية التي تضر بالمباني وبالتربة الزراعية.
لذلك يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الإسراف في استعمال الماء حتى لو كنَّا على نهر جارٍ.
فمعنى الذين أساءوا: أي الذي جاء إلى الصالح فأفسده أو أنشأ إفساداً جديداً، وطبيعي أن تكون عاقبته من جنس فِعْله {عَاقِبَةَ الذين أَسَاءُواْ السواءى} [الروم: 10] والسُّوأى: مؤنث سيء مثل: حسن للمذكر، وحُسْنى للمؤنث. وأصغر وصُغْرى، فهي أفعل تفضيل من السُّوء.
ثم يقول سبحانه: {أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [الروم: 10] فالأمر لم يقف عند حَدٍّ التكذيب بالآيات، إنما تعدّى التكذيب إلى الاستهزاء، فما فلسفة أهل الاستهزاء حينما يستهزئون بالآخرين؟ كثيراً ما نلاحظ أن التلميذ الفاشل يستهزيء بالمجتهد، والمنحرف يستهزيء بالمستقيم، لماذا؟
لأن حظ الفاشل أنْ يزهد المجتهد في اجتهاده، وحظ المنحرف أن يصير المستقيم منحرفاً مثله، ومن هنا نسمع عبارات السخرية من الآخرين كما حكاها القرآن: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ} [المطففين: 29-32].
لكن لا تتعجل، وانتظر عاقبة ذلك حينما يأخذ هؤلاء المؤمنون أماكنهم في الجنة، ويجلسون على سُرُرها وأرائكها: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 34-36].
والخطاب هنا للمؤمنين الذين تحملوا السخرية والاستهزاء في الدنيا: أقدرنا أنْ نجازيهم على ما فعلوه بكم؟
إذن: فلسفة الاستهزاء أن الإنسان لم يقدر على نفسه ليحملها على الفضائل، فيغيظه كل صاحب فضيلة، ويؤلمه أنْ يرى مستقيماً ينعم بعزِّ الطاعة، وهو في حمئة المعصية؛ لذلك يسخر منه لعله ينصرف عما هو فيه من الطاعة والاستقامة.
ثم يقول الحق سبحانه: {الله يَبْدَأُ الخلق...}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8